«لماذا تغيرت أخلاق المصريين..؟»
22/11/2008
علاء الأسواني
كنت أعمل طبيب أسنان في عيادتين متجاورتين في جنوب القاهرة، تفصل بينهما مسافة قصيرة أقطعها مشيا، كانت إحدي العيادتين في مستشفي خاص والأخري في مستشفي حكومي.. والحق أن الفارق بينهما كان كبيرا. فكنت أذهب إلي العيادة الخاصة فأجد كل شيء نظيفا ومنظما.. الأدوات الطبية كاملة ومعقمة جيدا والممرضة نشيطة مهذبة تنتظرني وقد أعدت قائمة بالمرضي..
أضف إلي ذلك أنني كنت أتقاضي هناك أجرا معقولا يكافئ ما أبذله من جهد. وعلي العكس من ذلك كان الوضع في المستشفي الحكومي.. فالمكان قذر مهمل والأدوات ناقصة والأمر يستغرق شهورا طويلا وموافقات معقدة للحصول علي أدوات جديدة.. والأجهزة كلها قديمة الطراز كثيرة الأعطال، بما في ذلك جهاز التعقيم وجهاز الأشعة مما يجعل عمل الطبيب معاناة حقيقية.. والممرضة وقحة وكسولة تسيء معاملة المرضي وتتحين أي فرصة للهروب من العمل.. أما مدير المستشفي فكان عضوا في الحزب الوطني..لا يهمه إلا تلميع صورته في وسائل الإعلام وإرضاء رؤسائه في الحزب والوزارة وتملقهم باستمرار حتي يضمن الترقي في المناصب.. بخلاف شائعات قوية كانت تتردد عن علاقته الخاصة بإحدي الممرضات التي تحولت بالتالي إلي صاحبة نفوذ تتحكم في مجريات الأمور في المستشفي.. وبالطبع كنت أقبض هناك أجرا هزيلا وغير عادل إطلاقا.. ظللت أتردد علي العيادتين ثلاث مرات أسبوعيا، أبدأ بالمستشفي الحكومي ثم أذهب بعد ذلك إلي المستشفي الخاص.. وشيئا فشيئا بدأت ألاحظ أنني ما إن أدخل إلي المستشفي العام حتي تنتابني حالة من الضيق والتبرم.. حتي إنني كنت أتمني في نفسي أن أذهب فلا أجد مريضا في انتظاري أو أن أجد ماكينة الأسنان معطلة فلا أعمل.. بينما، علي العكس، ما إن أدخل إلي المستشفي الخاص حتي أحس بالراحة وتنتابني الحماسة، فأنهمك في عملي محاولا أن أقدم أفضل ما لدي من علم ومجهود في علاج المرضي الذين كنت أعاملهم جميعا بهدوء ورحابة صدر.. والحق أنني بدأت أقلق من اختلاف الحالة النفسية التي تنتابني في العيادتين.. حتي ضبطت نفسي ذات مرة في المستشفي العام وأنا أسيء معاملة أحد المرضي.. عندئذ توقفت لمحاسبة نفسي وانتابني إحساس ثقيل من تأنيب الضمير. وفي اليوم التالي أرسلت استقالتي إلي مدير المستشفي العام وانقطعت عن العمل فيه ..لكنني تأملت ما حدث وسألت نفسي: ما الذي يدفع شخصا يؤدي نفس العمل في مكانين إلي التصرف بطريقتين متناقضتين تماما.؟. الإجابة كلمة واحدة: الإدارة.. إذا انصلح نظام الإدارة فإنه يخرج من الناس أفضل ما فيهم وإذا فسد أخرج منهم أسوأ ما فيهم.. وهذه القاعدة يمتد نطاقها ليشمل البلد بأسره.. فالإدارة في أي بلد موكولة للنظام السياسي.. فإذا كان النظام صالحا انصلح سلوك الناس وإذا كان فاسدا أدي إلي إفسادهم. وهذا للأسف ما حدث في مصر ...فقد اشتهر المصريون عبر تاريخهم بالكثير من الصفات الأخلاقية الجيدة.. ولا أبالغ إذا قلت إن الذكاء وخفة الظل والتسامح والطيبة والكرم والشهامة.. كلها صفات تميز بها المصريون ربما أكثر من شعوب أخري كثيرة.. لكننا نري الآن في المجتمع المصري كيف تتواري الصفات الجيدة في أحيان كثيرة لتترك مكانها لصفات أخري سيئة ..إن التدهور الأخلاقي في مصر قد أصبح ظاهرة استوقفت الكتاب وعلماء الاجتماع.. وصار بعضهم يلقي باللوم فيها علي المصريين أنفسهم.. وأنا أختلف مع هذا الرأي.. فالنظام الذي يحكم مصر منذ ثلاثين عاما فاسد وظالم بطريقة غير مسبوقة في تاريخنا الحديث.. وقد أدي ذلك إلي فقدان المصريين إلي أي إحساس بالعدالة. فالمصريون لا يتوقعون غالبا أن يعاملوا بعدالة في حياتهم اليومية، ولا يتوقعون غالبا أن يحصلوا علي حقوقهم بمجرد مطالبتهم بها، وربما لا يحصلون عليها أبدا، والمصريون لا يتوقعون أن تعاملهم الدولة بصدق وأمانة ولا أن تهتم بكرامتهم وسلامتهم. وقد تعلموا بخبرتهم المريرة أن الذين يحكمون مصر يديرونها لحسابهم وأولادهم وأتباعهم وليس لمصلحة المواطنين. المصريون فقدوا ثقتهم بالقانون نفسه لأنهم يعيشون الظلم وازدواج المعايير كل يوم.. بدءا من الضرائب التي يتم تحصيلها بالكامل من موظفي الحكومة الفقراء بينما يتهرب منها كبار الأثرياء.. مرورا بملايين الشباب الذين يعانون الفقر والبطالة لدرجة الانتحار أو الهروب في مراكب الموت، فلا تعبأ بهم الدولة بينما تسهل قروضا بالملايين للمقربين من الحكم وتهدي إليهم آلاف الأفدنة من أرض الدولة كهدية مجانية ليستثمروها فتدر عليهم الثروات الخرافية.. ونهاية بضابط الشرطة الذي يعتدي كل يوم علي كرامة المواطنين وإنسانيتهم وأعراضهم فلا يعاقب علي أفعاله وقد يكافأ عليها وبالمقابل تتدخل الدولة علي أعلي مستوي لحماية الكبار الذين تسببوا في قتل المصريين وإصابتهم بالأمراض.. هذا الفقدان للإحساس بالعدالة يملأ نفوس المصريين بالمرارة والكراهية ويؤدي إلي نتيجة خطيرة في أذهانهم، وهي الفصل التام بين الأسباب والنتائج ..فلم يعد الاجتهاد في التعليم يؤدي بالضرورة إلي الحصول علي وظيفة جيدة.. ولم يعد الاجتهاد في العمل يؤدي بالضرورة إلي الترقي.. ولم يعد العمل الجاد الدءوب بالضرورة مفتاحا للثروة ..ولم يعد الصدق والأمانة يؤديان بالضرورة إلي احترام المجتمع.. ولا الكذب والغش يؤديان بالضرورة إلي احتقار الناس أو عقاب القانون ..هذا الخلل الخطير في منظومة القيم أدي بالمصريين إلي نوع من السلوك العشوائي العدواني، غير الملتزم بضوابط أخلاقية ..صار المصريون يتدافعون إلي تحقيق مصالحهم بأي طريقة وأي ثمن ومهما أدي بهم ذلك إلي مخالفة ضمائرهم والاعتداء علي حقوق الآخرين. فالطالب يريد أن ينجح ولو بالغش، وصاحب المستشفي يريد أن يحصل علي الأتعاب من أهل المريض حتي ولو مات من سوء العلاج والإهمال. والبائع يريد أن يكسب حتي ولو باع للناس بضاعة مغشوشة.. حتي قيادة السيارات التي كنا نتعلمها علي أنها فن وذوق وأخلاق.. تحولت إلي نوع من الصراع اليومي الهمجي الشرس الذي لا يهتم فيه أحد بما يسببه من أذي للآخرين.. وقد تعقدت المشكلة عندما اعتنق قطاع كبير من المصريين فهما شكليا وسطحيا للدين، انتقل إلينا كالعدوي الخبيثة من مجتمعات بدوية صحراوية متخلفة بكثير عن مصر في التمدن والحضارة.. وهكذا أصبح كثير من المصريين يستعملون التدين الشكلي غطاء لسلوكهم السيئ.. فهم من أجل تحقيق مصالحهم يتنازلون عن مباديء الدين الحقيقية ويعتدون علي حقوق الناس وفي نفس الوقت يغطون هذا الانحراف بالتشدد في مظاهر الدين وأداء العبادات.. إن المجتمعات كائنات حية، تصح وتمرض مثل أي كائن حي.. والتدهور الأخلاقي الذي نعانيه الآن ليس إلا أحد الأعراض الخطيرة لمرض الاستبداد.. وقد تعلمنا في الطب أنه يستحيل علاج الأعراض قبل أن نعالج المرض ونزيل أسبابه.. لا يمكن أن يستعيد المصريون أخلاقهم الطيبة إلا إذا استعادوا إحساسهم بالعدل.. ولن يتحقق العدل أبدا وهذا النظام السياسي الفاسد جاثم علي صدور المصريين بالقوة، يقمعهم ويزور إرادتهم وينهب حقوقهم ويتسبب في إفقارهم وقتلهم .لن يتحقق العدل إلا بتطبيق ديمقراطية حقيقية.... عندئذ سيستعيد المجتمع صحته ويستعيد المصريون إيمانهم بالقانون والأخلاق..الديمقراطية هي الحل ..
أضف إلي ذلك أنني كنت أتقاضي هناك أجرا معقولا يكافئ ما أبذله من جهد. وعلي العكس من ذلك كان الوضع في المستشفي الحكومي.. فالمكان قذر مهمل والأدوات ناقصة والأمر يستغرق شهورا طويلا وموافقات معقدة للحصول علي أدوات جديدة.. والأجهزة كلها قديمة الطراز كثيرة الأعطال، بما في ذلك جهاز التعقيم وجهاز الأشعة مما يجعل عمل الطبيب معاناة حقيقية.. والممرضة وقحة وكسولة تسيء معاملة المرضي وتتحين أي فرصة للهروب من العمل.. أما مدير المستشفي فكان عضوا في الحزب الوطني..لا يهمه إلا تلميع صورته في وسائل الإعلام وإرضاء رؤسائه في الحزب والوزارة وتملقهم باستمرار حتي يضمن الترقي في المناصب.. بخلاف شائعات قوية كانت تتردد عن علاقته الخاصة بإحدي الممرضات التي تحولت بالتالي إلي صاحبة نفوذ تتحكم في مجريات الأمور في المستشفي.. وبالطبع كنت أقبض هناك أجرا هزيلا وغير عادل إطلاقا.. ظللت أتردد علي العيادتين ثلاث مرات أسبوعيا، أبدأ بالمستشفي الحكومي ثم أذهب بعد ذلك إلي المستشفي الخاص.. وشيئا فشيئا بدأت ألاحظ أنني ما إن أدخل إلي المستشفي العام حتي تنتابني حالة من الضيق والتبرم.. حتي إنني كنت أتمني في نفسي أن أذهب فلا أجد مريضا في انتظاري أو أن أجد ماكينة الأسنان معطلة فلا أعمل.. بينما، علي العكس، ما إن أدخل إلي المستشفي الخاص حتي أحس بالراحة وتنتابني الحماسة، فأنهمك في عملي محاولا أن أقدم أفضل ما لدي من علم ومجهود في علاج المرضي الذين كنت أعاملهم جميعا بهدوء ورحابة صدر.. والحق أنني بدأت أقلق من اختلاف الحالة النفسية التي تنتابني في العيادتين.. حتي ضبطت نفسي ذات مرة في المستشفي العام وأنا أسيء معاملة أحد المرضي.. عندئذ توقفت لمحاسبة نفسي وانتابني إحساس ثقيل من تأنيب الضمير. وفي اليوم التالي أرسلت استقالتي إلي مدير المستشفي العام وانقطعت عن العمل فيه ..لكنني تأملت ما حدث وسألت نفسي: ما الذي يدفع شخصا يؤدي نفس العمل في مكانين إلي التصرف بطريقتين متناقضتين تماما.؟. الإجابة كلمة واحدة: الإدارة.. إذا انصلح نظام الإدارة فإنه يخرج من الناس أفضل ما فيهم وإذا فسد أخرج منهم أسوأ ما فيهم.. وهذه القاعدة يمتد نطاقها ليشمل البلد بأسره.. فالإدارة في أي بلد موكولة للنظام السياسي.. فإذا كان النظام صالحا انصلح سلوك الناس وإذا كان فاسدا أدي إلي إفسادهم. وهذا للأسف ما حدث في مصر ...فقد اشتهر المصريون عبر تاريخهم بالكثير من الصفات الأخلاقية الجيدة.. ولا أبالغ إذا قلت إن الذكاء وخفة الظل والتسامح والطيبة والكرم والشهامة.. كلها صفات تميز بها المصريون ربما أكثر من شعوب أخري كثيرة.. لكننا نري الآن في المجتمع المصري كيف تتواري الصفات الجيدة في أحيان كثيرة لتترك مكانها لصفات أخري سيئة ..إن التدهور الأخلاقي في مصر قد أصبح ظاهرة استوقفت الكتاب وعلماء الاجتماع.. وصار بعضهم يلقي باللوم فيها علي المصريين أنفسهم.. وأنا أختلف مع هذا الرأي.. فالنظام الذي يحكم مصر منذ ثلاثين عاما فاسد وظالم بطريقة غير مسبوقة في تاريخنا الحديث.. وقد أدي ذلك إلي فقدان المصريين إلي أي إحساس بالعدالة. فالمصريون لا يتوقعون غالبا أن يعاملوا بعدالة في حياتهم اليومية، ولا يتوقعون غالبا أن يحصلوا علي حقوقهم بمجرد مطالبتهم بها، وربما لا يحصلون عليها أبدا، والمصريون لا يتوقعون أن تعاملهم الدولة بصدق وأمانة ولا أن تهتم بكرامتهم وسلامتهم. وقد تعلموا بخبرتهم المريرة أن الذين يحكمون مصر يديرونها لحسابهم وأولادهم وأتباعهم وليس لمصلحة المواطنين. المصريون فقدوا ثقتهم بالقانون نفسه لأنهم يعيشون الظلم وازدواج المعايير كل يوم.. بدءا من الضرائب التي يتم تحصيلها بالكامل من موظفي الحكومة الفقراء بينما يتهرب منها كبار الأثرياء.. مرورا بملايين الشباب الذين يعانون الفقر والبطالة لدرجة الانتحار أو الهروب في مراكب الموت، فلا تعبأ بهم الدولة بينما تسهل قروضا بالملايين للمقربين من الحكم وتهدي إليهم آلاف الأفدنة من أرض الدولة كهدية مجانية ليستثمروها فتدر عليهم الثروات الخرافية.. ونهاية بضابط الشرطة الذي يعتدي كل يوم علي كرامة المواطنين وإنسانيتهم وأعراضهم فلا يعاقب علي أفعاله وقد يكافأ عليها وبالمقابل تتدخل الدولة علي أعلي مستوي لحماية الكبار الذين تسببوا في قتل المصريين وإصابتهم بالأمراض.. هذا الفقدان للإحساس بالعدالة يملأ نفوس المصريين بالمرارة والكراهية ويؤدي إلي نتيجة خطيرة في أذهانهم، وهي الفصل التام بين الأسباب والنتائج ..فلم يعد الاجتهاد في التعليم يؤدي بالضرورة إلي الحصول علي وظيفة جيدة.. ولم يعد الاجتهاد في العمل يؤدي بالضرورة إلي الترقي.. ولم يعد العمل الجاد الدءوب بالضرورة مفتاحا للثروة ..ولم يعد الصدق والأمانة يؤديان بالضرورة إلي احترام المجتمع.. ولا الكذب والغش يؤديان بالضرورة إلي احتقار الناس أو عقاب القانون ..هذا الخلل الخطير في منظومة القيم أدي بالمصريين إلي نوع من السلوك العشوائي العدواني، غير الملتزم بضوابط أخلاقية ..صار المصريون يتدافعون إلي تحقيق مصالحهم بأي طريقة وأي ثمن ومهما أدي بهم ذلك إلي مخالفة ضمائرهم والاعتداء علي حقوق الآخرين. فالطالب يريد أن ينجح ولو بالغش، وصاحب المستشفي يريد أن يحصل علي الأتعاب من أهل المريض حتي ولو مات من سوء العلاج والإهمال. والبائع يريد أن يكسب حتي ولو باع للناس بضاعة مغشوشة.. حتي قيادة السيارات التي كنا نتعلمها علي أنها فن وذوق وأخلاق.. تحولت إلي نوع من الصراع اليومي الهمجي الشرس الذي لا يهتم فيه أحد بما يسببه من أذي للآخرين.. وقد تعقدت المشكلة عندما اعتنق قطاع كبير من المصريين فهما شكليا وسطحيا للدين، انتقل إلينا كالعدوي الخبيثة من مجتمعات بدوية صحراوية متخلفة بكثير عن مصر في التمدن والحضارة.. وهكذا أصبح كثير من المصريين يستعملون التدين الشكلي غطاء لسلوكهم السيئ.. فهم من أجل تحقيق مصالحهم يتنازلون عن مباديء الدين الحقيقية ويعتدون علي حقوق الناس وفي نفس الوقت يغطون هذا الانحراف بالتشدد في مظاهر الدين وأداء العبادات.. إن المجتمعات كائنات حية، تصح وتمرض مثل أي كائن حي.. والتدهور الأخلاقي الذي نعانيه الآن ليس إلا أحد الأعراض الخطيرة لمرض الاستبداد.. وقد تعلمنا في الطب أنه يستحيل علاج الأعراض قبل أن نعالج المرض ونزيل أسبابه.. لا يمكن أن يستعيد المصريون أخلاقهم الطيبة إلا إذا استعادوا إحساسهم بالعدل.. ولن يتحقق العدل أبدا وهذا النظام السياسي الفاسد جاثم علي صدور المصريين بالقوة، يقمعهم ويزور إرادتهم وينهب حقوقهم ويتسبب في إفقارهم وقتلهم .لن يتحقق العدل إلا بتطبيق ديمقراطية حقيقية.... عندئذ سيستعيد المجتمع صحته ويستعيد المصريون إيمانهم بالقانون والأخلاق..الديمقراطية هي الحل ..